لماذا نُجهد أنفسنا؟ – بقلم عبد العزيز نزال
اصطدمت قبل عدة أيام بسؤالٍ من احد المعلّمين الذين يشكّلون فارقاً، والذي كان يكبرني بجيلٍ وشعور ، قال : ” لماذا تقسون على أنفسكم أيها الشباب؟ ماذا تصارعون؟ أو بالأحرى . . . ماذا تريدون ؟، اما آن الوقت لكي تتحذوا من البساطة صديقاً لكم؟ اما آن تأمنوا بان الراحة والسكينة حقٌ كما التعب حق ! .
في حينها . . . لم يتشكل لدي الا دفاعات ترتطم بأي رأي قد يخالف رأيي الذي اتشربه كما الماء، ولكن بعد تفكير جلي، شعرت بأنه قولٌ ” قد ” يستحق التأمل ولو قليلاً، وبعد عدة أسئلة قد دارت في رأسي . . . . اردت حقاً ان اعرف الإجابة، الإجابة الحقة، التي لا تلتفت لحب رأيي او لبساطة الوجود، لا تلتفت الا للحقيقة، فجلست أكتب.
ولو حملقنا في اختلاف السنين والاجيال لوجدنا فرقاً كبيراً في تركيب الانسان في مقتبل العمر، بدءاً من حاجاته الغريزة او حتى النفسية منها، وان كان لذلك سبب فانه – في رأيي – يعود للكم الهائل من المستقبلات والمدخلات التي قد باتت موجودة في جلينا ولم تكن موجودة ابداً في جيل معلمينا أو من سبقونا بسنين او شعور، فلم تكن تلك الأجيال السابقة بحاجة كبيرة لمجابهة هذه المدخلات ، وكان في ذلك توفيرا عظيما للجهد والنفس والشعور، فينحدر جزءاً كبيرا من طاقاتهم الى سلك طرق البساطة والجمال او حتى الهدوء، ويقوم تركيب حبهم على مستقبلات بسيطة لا ترتقي لمستوى الجهد المبذول في حينٍ بعده . . . وحتى لو كان في توجهات معلمينا جزأ كبيراً من الحقيقة، ولكنها تفتقر الى التجارب الحقيقية، التجربة بأن تنشأ حقاً وسط كل هذا المدخلات والمشتتات، فتخلف حاجتنا لاثبات انفسنا اختلافاً عظيماً، او حتى كليا، كليا تماماً
اما نحنُ، فلقد جئنا الى عالم معقد لا يرتقي لمستوى البساطة المعهود في عوالم معلمينا، فولدنا بين الضجيج والاصوات، ونشأنا على معتقدات – معظمها خاطئة – قد تأصلت في اعماقنا كما الجذور، وصارت حاجتنا الأساسية تختلف اختلافاً كلياً عن جيلٍ سبق، بدءاً من الجسد وانتهاءً بالروح، ولا شك بأن الحياة – بالمجمل – أصبحت تتطلب جهداً مضاعفاً من التركيز على انفسنا، في وسط كل هذه المستقبلات والمشتتات والمدخلات، وأصبحت سبل الراحة مسألة مخيفاً لنا كجيلٍ جديد، ولا شك ان السبب في ذلك هو ارتباطها بما يسمى بالمتع اللحظية، فاصبحنا نخاف من هذا المتع خوفا عظيما، وامسينا نأجل ونأجل ونأجل في متعنا الى حين بعيد.
ان محاولة اثبات انفسنا ( لانفسنا حصراً ) تتطلب جهداً كبيرا في زمان كهذا، وليس ذلك لان الزمان بحد ذاته قد اختلف، ولكن لان تركيز الانسان على نفسه او على ما حوله قد صار معدوماً تقريباً، واصبح الجهد المبذول في التركيز مضاعفاً ومتعِباً جداً، فكلما تقدمت التكنولوجيا اكثر فأكثر، ازداد انغماسنا في الافتراضية وازداد ايضاً بعدنا عن الواقع، وفي هذا القول أتذكر قول سيدنا علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه عندما قال ” لا تربوا اولادكم كما رباكم آباءكم، فإنهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم “، وهذا ما نحاول ملياً ان نوصله
وان كنا نقدس القمم والنجاحات او حتى الركض المستمر، فليس في ذلك طمع بقدر ما فيه من اعتياد قد صار منّا، اعتيادٌ لم نختر ان نكون جزء منه بقدر ما اختار هو ان يكون جزءاً منا، ففي هذا الصدام بين الجيلين، يبرزُ جوهرُ الوعي المشكّل بالزمان،. فلا يمكن لجيلٍ أن يتشرّب تفاصيل الجهد المستحَق لجيلٍ يليه بشكلٍ كامل، لأن وعي كل منهما قد تشكّل بالضرورة من ظروف زمانه وكميّة مدخلاته، وهذا الاختلاف في الوجود المادي بين عوالمنا، هو ما يقود إلى اختلافٍ عميق في المعايير الأخلاقية والوجودية؛ فالنصيحة التي يقدمها المعلم (التي تمثل الراحة والبساطة) تقف كأطروحة جميلة، ولكنها تصطدم بواقع الجيل (الجهد والتعقيد) كنقيضٍ لا مفر منه….. وحينئذ، لا يبقى أمامنا إلا النتيجة (التركيب) الذي يجسده هذا الشعور الذي بات منا وفينا… ولو اجبت نيابة عن كل هذا الجيل لقلت :
” أحب الركض جداً، ولكنني متعب منه، ولكنني أحب هذا التعب أيضا “
ان لسان حال معلمينا يقول ” هون على نفسك “، ولا نعرف ان كانوا يدركون ملياً بان هذا السبيل هو الاهون والاحن من بين السبل المتاحة امامنا، واننا لنحاول كل يوم وساعة ودقيقة ان نثبت – لأنفسنا حصراً – باننا نستحق ان نتواجد في زمان كهذا، وليس في ذلك تحدٍ او محاولة، بل انه جزء لا يتجزأ من زمانٍ قد وجدنا انفسنا فيه ولم نختره، فصار لزاماً علينا ان نجد ما نثبت به لأنفسنا قدرتنا على التكيف معه، وصار لزاماً علينا ان نختار التعب المجمّل بالزهور، وصار لزاماً علينا ان نختلف
وختاماً، ” من ولد في جيلٍ معين، فهو المعلم الأبرز فيه، وليس في ذلك عنجهية بقدر ما فيه من واقع يلمس انفسنا “
والسؤال، لو كان المعلم طالباً حقاً، هل ستختلف كثيراً هذه السطور؟!
